الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
فإنه يريد من صرف همته إلى الشعر، بحيث صار شأنه ودينه، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يملأ أحدكم جوفه قيحاً خير من أن يملأه شعراً» أي أراد صرف همته إليه حتى يملأ جوفه منه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة». وكان عمر رضي الله عنه يسمع البيت يعجبه فيكرره مرات كما ذكره الجاحظ وغيره. وقد ذكر أبو البركات بن الأنباري في كتاب طبقات الأدباء في ترجمة أبي جعفر أحمد بن إسحاق البهلول بن حسان الأنباري: أنه كان فقيهاً، عالماً، واسع الأدب وتقلد القضاء لعدة من الخلفاء. ثم حكى عن ولده أبي طالب أنه قال كنت مع والدي في جنازة بعض أهل بغداد من وجوه الناس والى جانبه أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه، وينشده أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون وأعجبوا بها، وتعالى النهار وافترقنا، فقال لي أبي يا بني من هذا الشيخ الذي داخلنا في المذاكرة؟ فقلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه، فقال لا، فقلت: هذا أبو جعفر الطبري، فقال إنا لله! ما أحسنت عشرتي معه؛ فقلت كيف يا سيدي؟ قال: ألا نبهتني في الحال، فكنت أذاكره بغير تلك المذاكرة؟ هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف العلوم، ما ذاكرته بحسبها؛ ومضت على ذلك مدة فحضرنا في حق آخر وجلسنا، وإذا بالطبري قد دخل إلى الحق. فقلت أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلاً، فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه وجلس إلى جانبه، وأخذ يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي: هاتها يا أبا جعفر! إلى آخرها، فيتلعثم الطبري فينشدها أبي إلى آخرها، وكلما ذكر شيئاً من السير، قال أبي هذا كان في قصة فلان، ويوم بني فلان، مر يا أبا جعفر فيه فربما مر فيه، وربما تلعثم، فيمر أبي في جميعه. ثم قمنا، فقال لي أبي: الآن شفيت صدري: وأما أشعار المحدثين، فللطف مأخذهم، ودوران الصناعة في كلامهم، ودقة توليد المعاني في أشعارهم، وقرب أسلوبهم من أسلوب الخطابة، والكتابة، وخصوصاً المتنبي، الذي كأنه ينطق عن ألسنة الناس في محاوراتهم، وكثر الاستشهاد بشعره حتى قل من يجهله؛ فإذا أكثر المترشح للكتابة من حفظ الأشعار وتدبر معانيها، ساقه الكلام إلى إبراز ذخيرة ما في حفظه منها، فاستعملها في محلها، ووضعها في أماكنها، على حسب ما يقتضيه الحال في إيرادها واقتباس معانيها.
هذه تحية القلب المعذب، وسريرة الصبر المذبذب، وظلامة عزم السلو المكذب، أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها، الزفير أوارها، والدموع شرارها، والشوق أثارها، وفي الفؤاد ثأرها: أسفاً على أيام الاجتماع التي كانت مواسم السرور والأسرار، ومباسم الثغور والأوطار، وتذكراً لأوقات عذب مذاقها، وامتد بالأنس رواقها، وزوجت بكرها، ودوعب ذكرها: ومذ فارقت الجناب، لا زال جنا جنابه نضيراً، وسنا سنائه مستطيراً، وملكه في الخافقين خافق الأعلام، وعزه على الجديدين جديد الأيام، لم أقف منه على كتاب تخلف سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظري، ويقدم ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سويداء خاطري: وأسأله المناب، بشريف الجناب، وأداء فرض، تقبيل الأرض، حيث تلتقي وفود الدنيا والآخرة، وتعمر البيوت العامرة المنن الغامرة، وفضل الظل غير منسوخ بهجيره، ويبشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره: وإنني في السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدي تهاني تملأ يدي، ويودع بها عندي مسرة تقدح في الشكر زندي: وأنا أترقب كتابته ارتقاب الهلال: لتفرط عين عن الكرى صائمة، وترد نفس عن موارد الماء حائمة.بل ربما كان كل المكاتبة أو جلها شعراً، وقد يكون صدر المكاتبة شعراً وذيلها نثراً، وبالعكس. وقد يكون طرفاها نثراً وأوسطها شعراً، وعكس ذلك بحسب ما يقتضيه الترتيب، ويسوق إليه التركيب؛ وربما اكتفي بالبيت الواحد من الشعر في الدلالة على المقصد وبلوغ الغرض في المكاتبة: كما كتب بعض ملوك الغرب إلى من كرر كتبه ورسله إليه بقول المتنبي: إلى غير ذلك من المكاتبات المتضمنة للأشعار. أما مكاتبات الملوك الآن فقل أن تستعمل فيها الأشعار، أو يستشهد فيها بالمنظوم والمنثور، وقد تجيء التلقيحات بأبيات الشعر في غير المكاتبات من الرسائل الموضوعة لرياضة الذهن، وتنقيح الفكر كالرسائل الموضوعة في صيد ملك أو فتح بلد أو نحو ذلك؛ وقد أودعت المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء جملة من الأبيات الشعرية، أوردتها مورد الاستشهاد على ما يقتضيه المقام، ويسوق إليه سياق الكلام، على ما سلف ذكره عند الكلام على فضل الكتابة فيما تقدم. وعند مطالعة كلامهم، والوقوف على رسائلهم، ترى من أصناف الاستشهادات ما يروقك نظره، ويطربك سمعه.الحالة الثانية التضمين وهو أن يضمن البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة. أما تضمين البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة فمثل ما كتب به القاضي الفاضل: وصل من الحضرة: فوقفت عنده منه على: ورتعت منه في: وكرعت منه في حياض: وما زلت منه أنشده: ووافي على ما كنت أعهد: واسترجع فائت الدماء من مورده: ونفس عن النفس بأبيض أثماده وعين العين بأسود إثمده: وجدد إليه أشواقاً جديدها: وذكر أياماً لا يزال يستعيدها: وأما تضمين نصف البيت فمثل قول القاضي الفاضل: وربما ركبت القرينة الكاملة على البيت أو نصف البيت كما كتب به القاضي الفاضل أيضاً: ورد كتاب الحضرة بعد أن عددت: وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء: وربما ركب نصف البيت على نصف القرينة، كما ذكرت في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان السيف في مخاطبته للقلم، وهو: وأنت وإن ذكرت في التنزيل، وتمسكت من الامتنان بك في قوله: {علم بالقلم} بشهة التفضيل، فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله، وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسر بحصوله؛ لكني قد نلت من هذه الرتبة أسنى المقاصد، وشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد، وحلاني من كفه شرفاً لا يزول حليه أبداً، وقمت بنصره في كل معترك. فسل جنيناً وسل بدراً وسل أحداً.فركبت نصف بيت البردة على نصف قرينة. وما ذكرته في الرسالة التي كتبتها للمقر الفتحي صاحب ديوان الغناء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية. وهو: قد لبس شرفاً لا تطمع الأيام في خلعه، ولا يتطلع الزمان إلى نزعه، وانتهى إليه المجد فوقف، وعرف لكرم مكانه فانحاز إليه وعطف، وحلت الرياسة بغنائه فاستغنت به عن السوى، وأناخت السيادة بفنائه فألقت عصاها واستقر بها النوى.وقد يضمن الكاتب بعض القرينة نصف بيت، ثم يستطرد فيذكر أبياتاً كاملة الأجزاء على نمط أنصاف الأبيات التي يوردها، كما فعل الشيخ ضياء الدين أحمد بن عمر بن يوسف القرطبي في رسالته للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد تغمدهما الله برحمته في قوله: وقد يخالف بين قوافي أنصاف الأبيات التي يمزجها ببعض القرائن كما يخالف بين فواصل القرائن: كما في قول البديع الهمذاني: إلى غير ذلك من فنون الامتزاج التي يزاوج فيها بين المنثور والمنظوم، وينتهي فيها الكاتب إلى ما يبلغ به القدر المحتوم.أما تضمين بعض أبيات العرب في بعض قصائد المحدثين كما فعل القاضي الأرجاني في قوله من قصيدة مدح بها بعض الوزراء: فإن ذلك من وظيفة الشاعر لا الكاتب، وإن كان الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله قد أشار في كتابه حسن التوسل إلى التمثيل بذلك لما نحن بصدده.الحالة الثالثة: الحل:وهو أن يعمد الكاتب إلى الأبيات من الشعر ذوات المعاني فيحلها من عقل الشعر، ويسبكها في كلامه المنثور، فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم والأخبار النبوية، على قائلها أفضل الصلاة والسلام، وخصوصاً أشعار العرب فإنها ديوان أدبهم، ومستودع حكمهم، وأنفس علومهم في الجاهلية؛ به يفتخرون، وإليه يحتكمون. فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه، غزرت لديه المواد، وترادفت عليه المعاني، وتواردت على فكره، فيسهل عليه حينئذ حلها، ووضعها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة. قال صاحب الريحان والريعان: وهو شأن حذاق الكتاب في زماننا، وفيه من الجمال فنون: منها أنه يدل على حفالة أدب المجيد، واتساع الحفظ، والتيسير والتأتي لسبك اللفظ.ومنها أنه ليس يشهر منها إلا النادر للغاية في الحسن، فهي إذا حلت يحاورها المنشئ بما يناسب حسنها في البراعة، وهذا كثير في هذه الصناعة. قال في المثل السائر: وإنما جعل المنظوم مادة للمنشور بخلاف العكس لأن الأشعار أكثر، والمعاني فيها أغزر، قال: وسبب ذلك أن العرب الذين هم أهل الفصاحة كان جل كلامهم شعراً، ولا يوجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيراً، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم يسيراً، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون}. ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر. ثم استمر الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر، والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر، فلذلك صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار. قال في حسن التوسل: والحل باب متسع على المجيد مجاله، وتتصرف في كلام العارف به رويته وارتجاله.قال صاحب الريحان والريعان: وأول من فك رقاب الشعر، وسرح مقيده إلى النثر، عبد الحميد الأكبر: كاتب بني أمية إلى انقضاء خلافتهم. قال: وربما رامه غير المطبوع المتصرف فعقده وأفسده كما قال القائل: وبعضهم يحل فيعقد. قال: وكيفية الحل أن يتوخى هذا البيت المنظوم وحل فرائده من سلكه ثم ترتيب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحظره الوزن ولا اضطرته القافية، ويبرزها في أحسن سلك، وأجمل قالب وأصح سبك، ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إذا أمكن ذلك من غير كلفة، ويتخير لها القرائن. وإذا تم معه المعنى المحلول في قرينة واحدة فيفرض له من حاصل فكره، أو من ذخيرة حفظه، ما يناسبه. وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء؛ فإن كان نسيباً وتأتى له أن يجعله مديحاً فليفعل؛ وكذلك غيره من الأنواع. وإذا أراد الحل بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها، فمتى قصرت ولو بلفظة واحدة، فسد ذلك الحل وعد معيباً. وإذا حل اللفظ فلا يتصرف بتقديم وتأخير ولا تبديل، إلا مع مراعاة تدبير الفصاحة، واجتناب ما ينقص المعنى أو يحط رتبته.قال: وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه، ولا حجر على المتصرف فيه.ثم حل الأبيات الشعرية واستعمالها في النثر على ثلاثة أضرب:الضرب الأول: أن يأخذ الناثر البيت من الشعر فينثره بلفظه وهو أدنى مراتب الحل:قال في المثل السائر: وهو عيب فاحش، إذا لم يزد في نثره على أنه أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير. قال ومثله كمن أخذ عقداً قد أتقن نظمه، وأحسن تأليفه، فأوهاه وبدده؛ وكان يقوم عذره في ذلك لو نقله عن كونه عقداً إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه. وأيضاً فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء.وبالجملة فحل الشعر بلفظه لا يخرج عن حالين: الحال الأول: أن يكون الشعر مما يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها، وله في حله طريقان: الطريق الأول: أن يحله بالتقديم والتأخير من غير زيادة في لفظه: كما ذكر صاح بالصناعتين عن بعض الكتاب أنه حل قول البحتري: فقال في نثرها: أطل تهونين شأن الدنيا وجفوتها، فما المغرور الغافل فيها بعاقل. ويرجو معشر ضل سعيهم الخلود، وغول الغوائل دون ما يرجون. وإذا بات حريز القوم وماله من الله واق فهو بادي المقاتل. فلم يزد في ألفاظها شيئاً.الطريق الثاني: أن يحله بزيادة على لفظه كما حكى الجاحظ عن قليب المعتزلي أنه سمع منشداً ينشد للعتبي: فنثرها فقال يستعطف بعض الملوك على رجل من أهله: جعلني الله فداك ليس هو اليوم كما كان، إنه وحياتك أفلت بطالته، إي والله وراجعه حلمه، وأعقبه وحقك الهوى ندماً. أحنى الدهر عليه والله بكلكله، فهو اليوم إذا رأى أخا ثقة غض بصره ومجمج كلامه. فزاد في نثره ألفاظاً على ألفاظ الشعر.ونحو ذلك ما حكاه ضياء الدين بن الأثير عن بعض العراقيين أنه نثر قول بعض شعراء الحماسة: فقال في نثره: فكم لقي ألد ذا حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل، فكواه فوق ناظريه، وأكبه لفمه ويديه.الحال الثاني: أن يكون الشعر مما لا يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها، فيحتاج في نثره إلى الزيادة فيه، والنقص منه، وتغيير بعض ألفاظه حتى يستقيم كقول الشاعر: فإن المصراع الثاني من البيت لا يمكن حله بالتقديم والتأخير لأنك تقول في المصراع الأول: فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف ولا يمكن ذلك في المصراع الثاني حتى تزيد فيه أو تنقص منه فتقول مثلاً: فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف على ما تقدم. ثم تقول وصورته من اللحم والدم فضلة لا غناء بها دونهما، ولا معول عليها إلا معهما.قال في الصناعتين: وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة لأن بسط الألفاظ في أنواع المنثور شائع؛ ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج، ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واجد وليس ذلك بقبيح، إلا إذا اتفق لفظاهما؛ إلا أن أكثر ما يحسن فيه إيراد المعنى على غاية ما يمكن من الإيجاز، ومعنى قوله فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، داخل في قوله لسان الفتى نصف ونصف فؤاده. والمصراع الثاني تذييل للمصراع الأول. قال: فإذا أردت أن تحله حلاً مقتصراً بغير لفظه، قلت الإنسان شطران: لسان وجنان؛ وقريب من ذلك قول أبي نواس: فإن المصراع الأول يمكن حله بأن تقول: ألا يا ابن الذين بادوا وفنوا فيكون مستقيماً. أما المصراع الثاني فإنه إن قدم فيه أو أخر بأن قيل: ما ذهبوا لتبقى أما والله فإنه لا يستقيم، فتحتاج في نثره إلى تغيير وزيادة فتقول: ألا يا ابن الذين ماتوا ومضوا وظعنوا ونأوا أما والله ما ظعنوا لتقيم، ولا راموا لتريم، ولا موتوا لتحيا، ولا فنوا لتبقى. قال في الصناعتين: وفي هذه الألفاظ طول وليس بضائر على ما تقدم. قال: وإن أردت اختصاره قلت أما والله إن الموت لم يصبك في أبيك إلا ليصيبك فيك.الضرب الثاني وهو أعلى من الضرب الأول أن ينثر المنظوم ببعض ألفاظ ويغرم عن البعض ألفاظاً أخر: ويحسن ذلك في حالين الحال الأول: أن يكون في الشعر ألفاظ لا يقوم غيرها من الألفاظ مقامها بأن تكون مثلاً سائراً أو جارية مجرى المثل: كقول بعض شعراء الحماسة: فإن لفظ بني اللقيطة لا يقوم غيره من الألفاظ مقامه لكونه علماً على قوم مخصوصين فيحتاج الناثر أن يبقيه بلفظه، كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله في نثر البيت المذكرو: لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة، ولا الذي إذا هم بأمر كانت الآمال إليه وسيطة؛ ولكني أحمي الهمل، وأفوت الأمل، وأقول سبق السيف العذل. وكذلك كل ما جرى هذا المجرى ونحوه.الحال الثاني: أن يكون في البيت لفظ رائق، قد أخذ من الفصاحة بزمامها، وأحاط من البلاغة بجوانبها، فيبقيه على حاله، ويقرنه بلفظ يماثله ويوازنه، قال في المثل السائر: وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشاكلة، ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة، فإنه إذا أخذ لفظاً لشاعر مجيد، قد نقحه وصححه، فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة؛ ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح، والاستهداف للطعن. قال: وهو عندي أصعب منالاً من نثر الشعر بغير لفظه؛ لأنه يسلك مضيقاً لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة. بخلاف نثر الشعر بغير لفظه فإن ناثره يتصرف فيه على حسب ما يراه، ولا يكون مقيداً فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته؛ ومثل لذلك بقول أبي تمام في وصف قصيدة له: ثم قال: فقوله تملأ كل أذن حكمة من الكلام الحسن، وهو أحسن ما في البيت وأشهر، فلو قال قائل لمن هذا؟ قيل وهل يخفى القمر، وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة، ولم يخش عليه سرقة إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة، ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة، ويجعل فصاحة كل لسان عجمة. فبقي لفظ تملأ كل أذن حكمة وأتى معها بما يناسبها من الألفاظ الحسنة الرائقة. ونحو ذلك ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: أنه يؤاخي القرينة المحلولة بمثلها من عنده كما فعل هو في تقليد من التقاليد فقال: فكم مل ضوء الصبح مما يغيره، ثم قال: وظلام النقع مما يثيره. وقال أيضاً: وفل حديد الهند مما يلاطمه، ثم قال: والأجل مما يسابقه إلى قبض النفوس ويزاحمه. والقرينتان الأولتان نصفا بيتين للمتنبي، فأضاف إلى كل قرينة ما يناسبها. قال وهذا من أكثر ما يستعمل في الكتابة.الضرب الثالث وهو أعلى من الضربين الأولين أن يأخذ المعنى فيكسوه ألفاظاً من عنده ويصوغه بألفاظ غير ألفاظه:قال في المثل السائر: وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته؛ فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية، وإلا أحسن التصرف وأتقن التأليف؛ ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول.ولتعلم أن الأبيات الشعرية في حلها بالمعنى لها حالان: الحال الأول: أن يكون البيت الشعر مما يتسع المجال لناثره في نثره فيورده بضروب من العبارات. قال ابن الأثير: وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة. فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي: فهذا البيت يتصرف في نثره في وجوه من المعاني. وقد نثر ابن الأثير هذا البيت فقال: لا تعذل المحب فيما يهواه، حتى تطوي القلب على ما طواه. ونثره على وجه آخر فقال: إذا اختلفت العينان في النظر، فالعدل ضرب من الهذر. وكذلك قول المتنبي أيضاً: نثره ابن الأثير فقال: القتيل بسيف العيون، كالقتيل بسيف المنون؛ غير أن ذلك لا يجرد من غمده، ولا يقاد صاحبه بعمده. فزاد على المعنى الذي تضمنه البيت عدم القود بالعمد. ونثره على وجه آخر فقال: دم المحب ودم القتيل، متفقان في التشبيه والتمثيل؛ ولا تجد بينهما بوناً، سوى أنهما يختلفان لوناً. قال وهذا أحسن من الأول.وعلى هذا النهج يجري قول ابن الرومي في وصف الحديث: نثره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في وصف السيوف فقال: وكفى السيوف فخراً أنها للجنة ظلال، والى النصر مآل؛ وإذا كان من بيان الحديث سحر، فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السح الحلال. ثم نقله إلى وصف الأسنة فقال: حسب ألسنة الأسنة شرفاً أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها، وأن بث أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها، فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى ملال، وإذا لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل، فليس في الحديث سحر حلال. ثم نقله إلى وصف البلاغة فقال: البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهراً وتحيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهراً؛ لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز، فيتأول في حله، وإذا كان في الحديث ما هو عقلة للمستوفز، فهذا أنشوطة نشاط البليغ وحل تقال عقله. ونقله إلى وصف الكتابة، فقال: خطه شرك العقول، وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرئي المكتوب، عن فصاحة المسموع المقول، ولو لم يكن البيان سحراً، لما تجسدت منه في طرسه هذه الدرر، ولو لم يكن بعض السحر حلالاً، لما انجلى ظلام النفس عما يهتدى به من هذه الأوضاح والغرر.الحال الثاني: أن يكون البيت الشعر مما يضيق المجال فيه فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه: وذلك قليل بالنسبة إلى ما يتسع في حله المجال. قال في المثل السائر: وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا فذاً. فمن ذلك قول أبي تمام الطائي من قصيدة: فإن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب بين الأحمر والأخضر، وجاء ذلك واقعاً على المعنى الذي أراده: من لون ثياب القتلى ثياب الجنة، فإن ثياب القتلى حمر وثياب الجنة خضر.قال ابن الأثير: فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لمن يمكن؛ فيجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه؛ لأنه يتصدى لنثره بألفاظه، فإن كان عنده قوة تصرف، وبسطة عبارة، فإنه يأتي به حسناً رائقاً. وقد نثر هذا البيت فقال: لم تكسه المنايا نسج شفارها، حتى كسته الجنة وقد نثر هذا البيت فقال: لم تكسه المنايا نسج شفارها، حتى كسته الجنة نسج شعارها: فبدل أحمر ثوبه بأخضره، وكأس جمامه بكأس كوثره. قال: وهذا من الحسن على غاية يكون كمجد حسودها، من جملة شهودها. ومن ذلك قول أبي الطيب: فإن أبا الطيب بني بيته على واقعة مخصوصة. وذلك أن حصناً من حصون سيف الدولة قصده الروم، وانتزعوه، وخربوه؛ فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه، وجدد بناءهن وهزم الروم، ونصب جملة من جثث القتلى على السور، فنظم أبو الطيب في هذا قصيداً أوله: ولما انتهى إلى ذكر الحصن، جاء بهذا البيت في جملة أبيات، فشرح صورة الحال، في ارتجاع الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه، وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم. وهذا لا يمكن تبديل لفظه؛ فيجب على الناثر حسن الصنعة في حله ونثره. وقد نثره ابن الأثير أيضاً فقال: سرى إلى حصن كذا مستعيداً منه سبية نزعها العدو اختلاساً، وأخذها مخادعة لا افتراساً؛ فما نزلها حتى استقادها ولا نازلها حتى استعادها؛ فكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم؛ ثم قال: وفي هذا من الحسن مالا خفاء فيه، فمن شاء أن ينثر شعراً فلينثر هكذا وإلا فليترك. ثم نقله إلى معنى آخر، وأبرزه في صورة أخرى فأضاف إليه البيت الذي قبله من القصيدة فصار على هذه الصورة: ثم نثرهما فقال: بناها والأسنة في بنائها متخاصمة، وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة؛ وما أجلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد، وأصيبت بمثل الجنون فعلقت عليا تمائم من الرؤوس والأجساد. ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه، وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه. قال وهذا أحسن من الأول وأتم معنى. ثم تصرف فيه بزيادة على هذا المعنى فقال: بناها، ودون ذاك البناء شوك الأسل، وطوفان المنايا الذي لا يقال وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم، أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق. قال وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله.قلت: وكما ينبغي الإكثار من حفظ الأشعار على ما تقدم ليوردها في خلال كلامه استشهاداً وتضميناً أو يحلها ويقتبس معانيها في نثره على ما تقدم بيانه كذلك ينبغي له معرفة المشاهير من الشعراء الطائري السمعة: من شعراء الجاهلية كامرئ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، وأوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والأفوه الأودي، والمتلمس، والأعشى، وعلقمة بن عبدة، وعمرو بن كلثوم، والمرقش، والنمر بن تولب ومهلهل، وطفيل الغنوي، وعروة بن الورد، وقيس بن الخطيم، والشماخ بن ضرار، وعنترة، والسموأل بن عاديا، ومن جرى مجراهم.ومن المخضرمين، وهم الذي أدركوا الجاهلية والإسلام جميعاً: كحسان بن ثابت رضي الله عنه، ولبيد بن أبي ربيعة، وكعب بن زهير، وزيد الخيل الطائي، والنابغة الجعدي، وأمية بن أبي الصلت، والحطيئة، وعمرو بن معدي كرب، والزبرقان بن بدر التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، والخنساء بنت عمرو بن الشريد، ومن في معناهم.ومن المولدين، وهم الذين ولدوا من العرب في الإسلام: كالفرزدق، وجرير والأخطل، والقطامي، والكميت بن زيد الأسدي، والمساور بن هند، وعدي بن الرقاع، وكثر عزة، وعمر بن أبي ربيعة، والراعي، وابن مقبل، وابن مفرغ، وليلى الأخيلية، ومن انخرط في سلكهم.ومن المحدثين، وهم الذين أتوا بعد المولدين: كإبراهيم بن هرمة؛ وابن أذينة، وأبي نواس، وأبي العتاهية، طفيل الكناني وسلم الخاسر وابن ميادة، وصالح بن عبد القدوس، وأبي عيينة، والعباس بن الأحنف، والعتابي، وأشجع السلمي، والعكوك، وابن أبي زرعة الدمشقي، وأبي الشيصن والحمدوني، والعتبي، ودعبل الخزاعي، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وإبراهيم بن إسحاق الموصلي، وأبي علي البصير، وأبي تمام الطائي، وأبي عبادة البحتري، وأبي الطيب المتنبي، وابن بسام، والسري الموصلي، وأبي الفتح كشاجم، وأبي الفتح العبسي، وأبي الفرج الببغا، وابن الساعاتي، وابن قلاقس، والوأواء الدمشقي، والعفيف التلمساني، وابنه، وابن سنا الملك، وابن شمس الخلافة، وابن النبيه، والصفي الحلي ونحوهم.ومعرفة الفرسان منهم: كامرئ القيس، وخفاف بن ندبة، والزبرقان بن بدر وعنترة، وعمرو بن معدي كرب، ودريد بن الصمة.ومن كان منهم راجلاً يسعى على رجليه: كسليك بن السلكة، وابن براقة، وتأبط شراً والشنفري وغيرهم.ومن تقدم منهم في نوع من الشعر، كمعرفة طفيل الغنوي بوصف الخيل، وأمية بن أبي الصلت في أمر الآخرة وذكر الحرب، وعمر بن أبي ربيعة في وصف النساء، وعتيبة بن مرادس بمراكب الإبل، وكثير في الأمثال، والفرزدق في الأخبار، وجرير في المعاني.ومعرفة من هو أكثرهم حفظاً: الأغلب الشاعر: قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة، ومعرفة أي القبائل كانت الشعراء فيها أكثر: كهذيل؛ فقد قيل إنه كان فيها أربعون شاعراً مفلقاً كلهم يعدو على رجليه، ليس فيهم فارس، وأي قبيلة كان الشعر فيها أقل: كشيبان، وكلب؛ فقد قيل إنه ليس في الدنيا قبيلة أقل شعراء منهما وإنه ليس لكلب في الجاهلية شاعر قديم على أنها مثل شيبان أربع مرات.وقد ذكر ابن رشيق في عمدته عن عبد اله بن سلام الجمحي وغيره: أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة فكان منهم مهلهل بن ربيعة، وهو خال امرئ القيس بن حجر، ويقال إنه أول من قصد القصائد، والمرقشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، والمسيب بن علس وغيرهم؛ ثم تحول الشعر إلى قيس فكان منهم النابغتان الذبياني والجعدي، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ. ثم استقر الشعر في تميم فكان منهم أوس بن حجر، ولم يتقدمه أحد حتى كان النابغة وزهير فأخملاه.قلت: والمراد أن الشعر غلب في هذه القبائل وظهر فيها، وكان فيها الشعراء المجيدون؛ وإلا فالشعر موجود في قبائل العرب قبل ذلك: كحمير وكهلان من اليمن؛ بل في عاد وثمود على ما تشهد به كتب السير والأخبار. فإذا عرف الكاتب ذلك، استعان به في المساواة بمن شاء منهم في التقريظات والتفضيل عليه كما كتبت في تقريظ شاعر: فامرؤ القيس يغرق في مقياس معانيه، والنابغة الذبياني يقصر عن أن يبلغ مدى شأوه أو يدانيه، وزهير يقتطف زهرات البلاغة من أفانينه، وأوس بن حجر ينسج على منواله ويأتم بقوانينه، وطفيل الغنوي يتطفل على موائد شعره، وطرفة بن العبد يقصر عنه في شيوع ذكره، والأعشى يعشو إلى ضوء ناره، وعمرو بن كلثوم يسعى إلى بابه ويقف بفناء داره، وكثير في أمثاله لا يعد من أمثاله، وجرير في مفاخره يتمسك من الفخار بأذياله، والفرزدق في أوصافه يقلبه ما بين يمينه وشماله؛ فلو رآه عبد الملك بن مروان لاختاره على الأخطل، أو اجتمع مع أبي نواس لدى الأمين لقال هذه هو المقدم الأفضل، أو أدركه أبو تمام، لاعترف له بالتمام، وأو بصر به أبو عبادة لقال أنا له عبد وغلام، أو عاصره المتنبي لاعترف بفضله، أو ابن الساعاتي لقال لا يأتي الزمان دون قيام الساعة بمثله. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.وكذلك ينبغي أن يعرف مصطلح أهل العروض الذي هو ميزان الشعر مثل الوتد، والسبب، والفاصلة، والعروض، والضرب؛ وأسماء البحور: من الطويل، والمديد، والبسيط، وأخواتها؛ وألقاب الزحاف: كالخبن، والخبل، والقبض وغيرها: ليدخلها تضاعيف كلامه عند احتياجه إلى ذلك كما قال صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاري في أول ألفيته في العروض: وما ينخرط في هذا السلك من الكلام المنثور أيضاً.
|